بسبب العوامل الثقافية والاجتماعية والوصمة التي حجبت التبليغ وطلب المساعدة ابتداءً فإن الأسرة تتعامل مع وفاة الضحية أو تعرضها لإصابة خطرة تهدد حياتها بالتكتم الشديد وادعاء بأن الوفاة أو الإصابة الخاطرة ناتجة عن حادث عرضي أو أنها ناتجة عن إيذاء النفس، وما يساعد على هذا التكتم وعدم اكتشاف الحقيقة هو عدم دراية أطباء أقسام الطوارئ التميز بين الإصابات العرضية والمقصودة وبسبب قناعتهم في بعض الأحيان أن هذه الأمور هي أسرية خاصة لا يتوجب التدخل بها، عكس ما يوجب القانون وأخلاقيات مهنة الطب، كما أن تهميش دور الطب الشرعي بالتعامل مع هذه الحالات وتأخر كشفه عليها، إن كان بسبب عدم طلبه من قبل الشرطة أو النيابة العامة أو بسبب عدم استشارته من قبل أطباء الطوارئ أو اختصاصي الجراحة، سيؤدي حتما لضياع الأدلة أو تخفيف أهميتها الجنائية وبالتالي عدم تشخيص العنف وغياب العدالة والإفلات من العقاب.
الجريمتان اللتان ارتكبتا في الأردن مؤخرا والمعروفتان بـ "صرخات أحلام تهز الأردن" و"فتاة مستشفى الجامعة الأردنية" أكبر دليل على التكتم على جرائم العنف الأسري من قبل الأسرة ذاتها وعلى التراخي وغياب المهنية من قبل أطباء الطوارئ والجراحيين والأطباء الشرعيين، وتباطؤ الشرطة وتوانيها في التعامل مع حالات العنف الأسري، مما دعا لطرح السؤال على العموم؛ لماذا تحجم الأسر عن التبليغ عن العنف الأسري ضد النساء؟
العوامل الفردية التي تمنع المرأة المتزوجة أو الفتاة من الإفصاح عن العنف الذي تتعرض له:
بعض النساء يعشن رهينات حالة نفسية من الخوف والرعب من البوح بمشاكلهن وبعضهن لا يملكن أي دخل مالي سوى اعتمادهن على أفراد الأسرة الذكور، وبعضهن أسيرات في جدران منازلهن بكل معنى الكلمة.
كما وأن تعرض الضحية لإساءة جسدية أو جنسية خلال طفولتها أو مشاهدتها لعنف أسري سابق يقلل احتمالية أدراكها من أن ما تتعرض له هو عنف ويمنعها ذلك من القيام بخطوات لحماية نفسها.
بعض النساء يعتقدن أنهن يستحققن التعامل بهذه الطريقة بسبب ضعفهن أمام مواجهة الخزي والعار والإذلال المرتبط بالعنف وبذلك يتجنبن الانتقاد من قبل المهنيين أن كانوا ضباط أو أطباء، لاعتقادهن أنه لن يأخذ كلامهن على محمل الجد أو أنهم سوف ينتقدن أو يتعرضن للوم.
كما وأن بعض النساء لا تطلب المساعدة على أمل أن يتحسن أو يتغير سلوك مرتكب العنف، إن كان زوجها أو والدها أو شقيقها، وفي بعض الأحيان تعتقد أنها تحميه من حالة استثنائية تتوقع أن تزول.
ورغم تعدد هذه الأسباب الفردية لصمت المرأة تبقى الثقافة السائدة في المجتمع والوصمة المرتبطة بالعنف الأسري من أهم الأسباب التي تدفع المرأة أو أي من أفراد أسرتها للصمت، وبالتالي تحجب عن الضحية أي مساعدة تحميها قد تمنع وفاتها في بعض الأحيان.
العوامل الثقافية والاجتماعية التي تحكم الأسر الأردنية وتؤدي إلى إحجامها عن التبليغ عن العنف الذي يتعرض له أفرادها، إن كان مِن قبل الضحية نفسها أو من قبل مَن شاهد العنف أو عرف عنه من أفراد الأسرة.
1. وجود ثقافة متوارثة تتمثل في سوء فهم لماهية العنف، فهناك اعتقاد سائد في المجتمع أن العنف ضد الطفل أو ضد المرأة هو فقط المرتبط بالكسور أو الجروح النازفة أو الإصابات الشديدة التي توجب إدخال المستشفى، وان الإصابات البسيطة وأي إيذاء جسدي لا يترك علامات لا يندرج تحت مفهوم العنف، وأن الضرب هو شكل مقبول من التأديب والتربية، كما أن هذه الثقافة المتوارثة لا تعتبر العنف الكلامي أو العنف النفسي أو مظاهر الإهمال شكلا من أشكال العنف الأسري، وتتعزز هذه الثقافة المتوارثة بذيوع اعتقادات مغلوطة من أن الحكومة ليس لها علاقة بما يجري داخل الأسر باعتباره امر خاص وأي تدخل منها هو انتهاك لخصوصية الأسرة، كما أن هناك شيوع لمعلومات مغلوطة أيضا من أن القانون لا يعاقب على مثل هذه التصرفات.
2. عدم دراية أفراد الأسرة بأبجديات حقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الطفل، وخاصة أنه من حق المرأة والطفل أن يعيشا في بيئة خالية من كافة أشكال العنف. وهنا لا نتكلم بالضرورة عن اطلاع الأسر على النصوص المكتوبة حرفيا للاتفاقيات الدولية بل على مفاهيم الحقوق المتوارثة إيجابيا والمترسخة في الثقافة العربية الإسلامية.
3. عدم التبليغ عن حالات العنف الأسري بسبب نقص أو غياب الدراية بالتشريعات والقوانيين الوطنية، إن كانت الجزائية أو قوانيين الحماية أو قوانين الخدمات الاجتماعية.
4. عدم التبليغ عن حالات العنف الأسري لعدم علم أفراد الأسرة أن هناك مؤسسات تقدم خدمات الوقاية والحماية من العنف في المجتمع المحلي كإدارة حماية الأسرة وأقسامها بالمحافظات، وقد ينتج عدم التبليغ عن الجهل في كيفية النفاذ لهذه المؤسسات، أو بسبب تكوين انطباع سلبي عن هذه المؤسسات بسبب خبرة سلبية سابقة أو بسبب إشاعات متداولة في وسائل التواصل الاجتماعي أو بسبب تقارير صحفية رصدت سلبيات هذه المؤسسات.
5. معاناة أفراد الأسرة من الأمية والجهل والانعزال الاجتماعي والمستوى الاقتصادي المنخفض يفاقم من عدم الدراية بحقوق الإنسان وبالحقوق الواردة في القوانيين الوطنية ويحجب عنهم وسائل التبليغ والنفاذ لمؤسسات حماية الأسرة من العنف ولمؤسسات الخدمة الإجتماعية.
6. شيوع المفاهيم الدينية المغلوطة والتي تستخدم لترويج أحقية ومشروعية تسلط رب الأسرة، وهو عادة الأب، في تأديب زوجته وبناته وأطفاله وفي التحكم التام بكل مناحي أفراد أسرته بما في ذلك منعهم من التبليغ وطلب المساعدة، وفي كثير من الأحيان تمنح هذه السلطة الأبوية بالامتداد لاي من الذكور البالغين في الأسرة.
7. شيوع فكر بأن التبليغ عن العنف الأسري وطلب المساعدة والحماية من الجهات الرسمة هو إفشاء لأسرار الأسرة وهو عار وفضيحة ووصمة مخجلة إن كان لدى الجيران، أو الحي، أو الأقارب، أو الأسرة الممتدة، أو العشيرة.
8. شيوع ثقافة أن مواجهة العنف الأسري هو امر يتوجب حصر التعامل معه داخل الأسرة، وفي حالات العنف الزواجي قد تطلب المساعدة من الأقارب، أو الأسر الممتدة، أو وجهاء العشائر، أو رجال الدين بعيدا عن تدخل المهنيين في القطاعات الشرطية أو الاجتماعية أو القضائية، وأيضا الاعتقاد من أن طلب الحماية من قبل المؤسسات الحكومية هو امر سيؤدي حتما لنبذ ضحايا العنف من النساء اجتماعيا وأسريا.
مواجهة الإحجام عن التبليغ عن حالات العنف الأسري:
1. برامج توعية مستدامة يخطط لها وتنفذ وترصد وتقييم على المستوى الوطني حول حقوق المرأة والفتيات تأخذ بعين الاعتبار الثقافة المحلية، وتتضمن مفاهيم وأشكال العنف والسلوكيات التي تشكل انتهاكا لهذه الحقوق ووسائل موجهة هذه الانتهاكات.
2. التوعية في مجال التشريعات الوطنية التي تتعلق بمواجهة العنف الأسري وحماية الأسرة.
3. التوعية بخدمات وعنوانين وهواتف إدارة حماية الأسرة وأقسامها بالمحافظات والمؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني المرتبطة بها وتنفيذ برامج توعوية تعكس الممارسات الإيجابية لإدارة حماية الأسرة والخدمات الاجتماعية والطبية التي تقدمها، وتستهدف برامج التوعية هذه استرجع الثقة بهذه المؤسسات والخدمات.
4. وضع الأنظمة والإجراءات والتدابير المتعلقة باستقبال التبليغات عن حالات العنف الأسري الخاصة بالنساء، موضع التنفيذ لضمان نفاذ واستقبال ضحايا العنف بكرامة واحترام، والحفاظ على الخصوصية والسرية، ومواجهة التعرض للوصمة والعار، ويجب توفير خدمات استقبال التباليغ من قبل شرطة نسائية وباحثات اجتماعيات وطبيبات.
5. تنفيذ برامج تدريبة متخصصة ومستدامة لتنمية مهارات مستقبلي التباليغ والعاملين على الخطوط الساخنة التي تستقبل معلومات عن الحالات.
6. توفير مؤسسات بديلة ووسيطة لاستقبال التبليغات، مثل المراكز الصحية، وعيادات الأمومة والطفولة ومؤسسات المجتمع المدني، ومراكز الخدمات الاجتماعية، ومثل هكذا مبادرة ستكون فاعلة لأقصى درجة لكنها تتطلب التخطيط، والتشبيك، والاستدامة بالتنفيذ، والرصد.
دكتور هاني جهشان مستشار الطب الشرعي
الخبير في مواجهة العنف والإصابات\
コメント