وفيات الأطفال الرضع المفاجئة
إن فقدان الوالدين لطفلهما الرضيع بسبب وفاته فجأة يشكل مأساة غامضة يرافقها معاناتهما من كرب نفسي شديد، ويراودهما أسئلة مُلّحة يرغبان بمعرفة أجوبتها "ما سبب الوفاة؟" "لماذا طفلي تحديدا؟" "وهل كان هناك شيء من الممكن عمله يقي من حصول هذه الوفاة؟" تعكس هذه الأسئلة الشعور بالذنب نحو طفلهما المتوفى وبالتالي اليأس والقنوط والإحباط والإكتئاب
الاسباب المرضية لوفيات الاطفال الرضع المفاجئة (غير العرضية وغير الجنائية) تتراوح ما بين أمراض بطبيعتها تؤدي إلى الوفاة الفجأة من مثل الحالة المرضية المعروفة باسم "وفاة المهد" وأمراض يعاني منها الرضيع لم تشخص بسبب عدم عرضه على الطبيب إبتداءا أو بسبب علاجه بعقاقير لم توصف لحالته تحديدا أو بسبب الإخفاق بتقديم العلاج المناسب لحالته وإن تم عرضه على الطبيب. أما أسباب وفيات الاطفال الرضع المفاجئة ذات المنشأ المرضي والتي تم الكشف عليها في الطب الشرعي بالأردن كان ألأعم الأغلب منها بسبب تعرض الطفل لإلتهاب بالقصابات الهوائية أو لإلتهاب رئوي أو بسبب عدم إكتمال نمو الطفل حديث الولادة، وفي حالات نادرة كان بسبب تشوهات خلقية غير مشخصة، وتتصف جميع هذه الحالات بأنه كان من الممكن علاجها إن شُخّصت بالوقت المناسب وقدم لها العلاج المناسب وبالتالي كان من الممكن الوقاية من حصول الوفاة المفاجئة المرتبطة بعوامل خطورة تتراوح ما بين الجهل والإهمال.
اما "وفاة المهد" والتي هي أحدى أسباب وفيات الأطفال الرضع المفاجئة فلا زالت غامضة من الناحية العلمية فهي غير مرتبطة بأسباب جرثومية أو سمية المنشأ، وإنما مقترنة بعوامل خطورة من مثل تنويم الرضيع على بطنه أو أحد جانبيه، وكون أحد أو كلا الوالدين مدخناَ أو متعاطيا لكحول او المخدرات، وتحدث وفاة المهد بالعادة في ساعات الفجر خلال نوم الرضيع بدون أن يسبقها أي أعراض تحذيرية، وهي شائعة بالرضع ما بين عمر شهر واحد إلى سنة واحدة، وبنسبة أعلى في الأطفال ما بين شهرين وأربع أشهر، وهي أحد أهم وفيات الأطفال عامة بعد الوفيات الناتجة عن الالتهابات الرئوية وعن التشوهات الخلقية، وعن عدم إكتمال النمو بسبب الولادات المبتسرة، إلا أنه أثبتت الأبحاث العلمية أنه من الممكن خفض نسبة وفيات المهد بالتوعية الوالدية المتعلقة بنمو وتطور الطفل وعدم تنويم الطفل على بطنه أو جانبه.
من الممكن أن تكون وفاة المهد مرتبطة بالأمراض الأيضيّة؛ وهي أمراض وراثية حدوثها نادر جدا، تؤدي إلى إعتلال في إنزيمات أساسية تمنع تحول الطعام إلى طاقة في جسم الطفل وقد تؤدي إلى الوفاة الفجأة في حالات نادرة، من مثل مرض الفينيل كتينيوريا على سبيل المثال وليس الحصر، وهذه الحالات من الممكن تشخيصها بتوفير الخدمات الطبية والمخبرية المتقدمة.
"الإختناق" هو إخفاق الرضيع عن التنفس وينجم عنه نقص بالأكسجين في أنسجة الجسم، مما يؤدي إلى فقدان الوعي وبالتالي الوفاة سريعا وبظروف مفاجئة، والأعم الأغلب من حالات إختناق الأطفال الرضع هو بظروف عرضية مرتبطة بعوامل خطورة ناتجة عن الجهل أو الإهمال، كالغصص بالطعام أو الحليب أو بأجسام غريبة كالألعاب الصغيرة او أجزائها، أو بسبب إنسداد المسالك التنفسية الخارجية بالأكياس البلاستكية والوسائد أو أغطية السرير والدمى أو بسبب نوم الأم أثناء ارضاعها طفلها وهي مستلقية بجانبه، أو بسبب إنضغاط عنق الطفل بقضبان السرير، أو بسبب إستنشاق غازات سامة من المدفأة، وفي حالات نادرة جدا من الممكن أن ينتج الإختناق عن أسباب مرضية كإنسداد المسالك التنفسية بسبب مرض إلتهابي حاد أو بسبب حساسية مفاجئة، كما وأن إختناق الأطفال الرضع من ممكن أن يكون مقصودا بعوامل خطورة مرتبطة بالعنف ضد الطفل كالضغط على القفص الصدري للطفل أو بكتم نفسه باليد أو بلاصق، أو بالضغط على العنق باليد أو برباط.
وفيات الأطفال الرضع السريعة الناتجة عن إصابات مباشرة للرأس، يُدَعَى بأغلب الأحيان أنها وفيات مفاجئة، فعلى سبيل المثال "متلازمة الطفل المرتج" تنتج عن رج الطفل بعنف مما يؤدي إلى نزف داخل الجمجمة وتلف بالدماغ وبالتالي الوفاة وبسبب حجب ظروف الإصابة وتأخير العلاج فتبدو الوفاة وكأنها مفاجئة. أما إذا تبين أن هذه الوفاة المفاجئة إصابية المنشأ وذلك عقب إجراء الكشف الطبي الشرعي فيدعى عادة أنها ناتجة عن سقوط الرضيع في محاولة لتجنيب المعتدي للعقاب، وفي حال حدوث تراخي بالتحقيق وتتبع الحالة فإن كثيرا من وفيات الرضع الإصابية تسجل خطأ على أنها سقوط، علما بأنه في الحالات النادرة التي قد يتعرض بها الرضيع للسقوط عرضيا أثناء حمله من قبل شخص بالغ أو سقوطه أثناء حمله من قبل طفل آخر من غير المتوقع أن يؤدي ذلك إلى إصابات قاتلة في الأعم الأغلب من الحالات، أما حالات سقوط الأطفال الذين تجاوز عمرهم عدة أشهر وأصبحوا قادرين على الحركة فأنه من غير المتوقع أيضا أن تكون إصابتهم شديدة إذا كان السقوط عن السرير أو أثناء بداية المشي.
قد تنتج وفيات الأطفال المفاجئة بسبب تسمييم الطفل قصدا إن كان بسبب الجهل بإستعمال العلاجات الشعبية من المشعوذين أو بإستخدام عقاقير طبيبة عشوائية غير مناسبة لعمر الطفل وغير موصوفة من قبل الأطباء، وإن كان بإعطاء الطفل عقاقير منومة أو مهدئه بهدف كفه عن البكاء من قبل خادمة أو جليسة الأطفال أو مربية بالحضانة أو في بعض الأحيان من قبل أمه، وجميع هذه الظروف تؤدي إلى الوفاة المفاجئة بسبب جرعة زائدة أو بسبب سمية العقار أو بسبب إستجابة خاصة غير متوقعة لدى الطفل.
كمهنيين عاملين في القطاعات المختلفة المعنية بحماية الأطفال يتوقع منا أن نوفر الدعم النفسي لوالدي ولأفراد أسرة الطفل الرضيع المتوفى فجأة بتوفير المعلومات العلمية لهم وسبل الدعم والعلاج النفسي إذا دعت الضرورة لذلك، وأما وفيات الأطفال الرضع المرتبطة بالجهل والإهمال والعنف فهناك مسؤولية مباشرة على المهنيين وصانعي القرار والمؤسسات الحكومية المعنية بحماية الأطفال أن تقوم بحملات توعية تستهدف كافة أفراد المجتمع لتوفير ظروف أمن وآمان لكافة الأطفل بما فيهم الأطفال الرضع.
الوضع الحالي:
إن العديد من وفيات الاطفال الرضع المفاجئة لا يحقق بها، وفي حال حصول الكشف الطبي الشرعي بهدف معرفة اسباب الوفاة وظروفها فيما إذا كانت مرضية أو عرضية أو جنائية فإن هذه البيانات والمعلومات لا تجمع أو تحلل بطريقة منهجية، ويشكل غياب قاعدة المعلومات هذه عائقا أمام الأطباء وصانعي القرار والباحثين الأكاديميين يحجب رصد أنماط وفيات الأطفال الرضع في مجتمعنا وتحديد عوامل الخطورة المؤدية لها وبالتالي الإخفاق بوضع وتنفيذ خطط وطنية تهدف للوقاية أو منع هذه الوفيات من الحصول ابتدائيا.
على من تقع مسئولية الاستجابة لوفيات الأطفال الرضع المفاجئة وغير المتوقعة؟
الوقاية من كافة اشكال وفيات الرضع والأطفال عموما هو محور هام في مجال الصحة العامة تتحمل وزارة الصحة مسؤولية تنفيذه مع القطاعات الأخرى واهمها وزارة التنمية الاجتماعي والامن العام والقضاء، ويتم ذلك بإنشاء فرق مراجعة وفيات الأطفال حسب المعايير الدولية المهنية المتخصصة والتي ثبت نجاحها في الدول التي بادرت بإنشاء هذه الفرق. في الأردن وللأسف تم المطالبة مكررا بإنشاء مثل هذه الفرق وعلى مدى عشرات السنوات دون استجابة او إعطاء وزارة الصحة أهمية لذلك.
تراجع هذه الفرق على مستوى المستشفى والمحافظة وعلى المستوى الوطني، إجراءات حماية الأطفال من الأمراض والإصابات والعنف والإهمال، من خلال الاستفادة من المعرفة المتعاظمة القائمة على خبرات المهنيين بالقطاعات المعنية في الميدان واستخدامها في مجال وضع السياسات الوقائية وتحديث التشريعات المتعلقة بالتحقيق في وفيات الاطفال وبالتالي توفير ظروف حياة آمنة للأطفال، كما ويتوقع من هذه الفرق عند إنشائها التوعية لعموم المجتمع وللمهنيين في مجال رعاية الأطفال الطبية والاجتماعية والنفسية وفي مجال حقوق الطفل، ولصانعي القرار وللمشرعين أهمية التحقيق المهني المتخصص في وفيات الأطفال.
"فرق مراجعة وفيات الأطفال"
تعريف "فريق مراجعة وفيات الأطفال": هو مجموعة من المهنيين في قطاعات القانون والصحة والخدمات الاجتماعية، ومؤسسات المجتمع المدني، يهدف لتطبيق نظام وطني لمراجعة وفيات الأطفال لتحسين صحة ورفاه الطفل، ولتوفير الأمن والآمان له، بخفض عدد الوفيات والإصابات الشديدة الناتجة عن الإصابات العرضية أو المقصودة والوفيات الغامضة، بتعديل السياسات والتشريعات ولا يهدف لتقديم الخدمات او التقصي الجنائي أو الاجتماعي. يكون عادة على مستوى المستشفى او المحافظة أو الدولية.
يهدف "فريق مراجعة وفيات الأطفال" إلى تطبيق نظام وطني لمراجعة وفيات الأطفال لتحسين صحة ورفاه الطفل، ولتوفير الأمن والآمان له، بخفض عدد الوفيات والإصابات الشديدة الناتجة عن الإصابات العرضية أو المقصودة، بتعديل السياسات والتشريعات وليس حصرا بالخدمات او بالتقاضي، وذلك عن طريق تحسين المسح والتقييم والتعرف والتبليغ عن حالات العنف ضد الأطفال لدى التعامل من الإصابات الشديدة الواقعة على عليهم او الوفيات الغامضة او الوفيات بظروف إهمال، وتقوية نظام حماية الأطفال بهدف تحمله مسؤولياته بالتعلم من دراسة حالات العنف ضد الأطفال القاتلة والشديدة، وتحليل المعلومات، ونشر التقارير والأبحاث، وتوضيح المسؤوليات والمهام للقطاعات المختلفة، وتعزيز التعاون بين القطاعات المختلفة بتفهم كل قطاع أدوار القطاعات الأخرى، وتعميم المعلومات على نطاق جغرافي واسع، ودعم الممارسات الجيدة، ووقاية أفراد الأسرة من العواقب النفسية لوفيات الأطفال.
يتصف فريق مراجعة وفيات الأطفال بأنه متعدد المهن، ومتعدد القطاعات، ومتعدد المؤسسات، شاملا للمهن الصحية والقضائية والشرطية والاجتماعية، العاملة في المؤسسات الحكومية والتطوعية وفي القطاع العام والخاص، ومن الممكن أن يباشر تطبيقه على مستوى محلي كمستشفى بهدف الوصول إلى فريق على المستوى الوطني.
مهمة الفريق المحورية هي مراجعة وفيات الأطفال المفاجئة وغير المتوقعة التي لا تفسير لها وأيضا وفيات الأطفال الناجمة عن الإصابات الشديدة إن كانت بظروف غامضة أو مشتبهة أو بظروف عرضية ناجمة عن إهمال أو كونها ناجمة عن عنف.
أهم التحديات التي من المتوقع أن تعيق أنجاز هذه المهمة هو عدم الرغبة بالمشاركة كقطاعات مهنية متعددة بسبب النزعة الفردية أو التنافس السلبي أو بسبب عدم وضوخ التخصصات المهنية أو التوزيع الجغرافي للخدمات المختلفة، وكذلك غموض وتناقض المرجعية الأخلاقية والقانونية بخصوص الحفاظ على السر المهني وبين المبادرة بحماية الطفل بالتبليغ، وعائق أخر هو عدم كفاية نظم المعلومات، والتي تشمل الإحصاءات، معلومات الخروج من المستشفى، ملفات المحاكم، وأوراق الأحوال المدنية.
يخلص عمل الفريق إلى إتباع إجراءات متفق عليها تحدد دور كل قطاع ولا تتقاطع مع الادوار للقطاعات الأخرى، وسبل التشارك بالمعلومات وجمع الأدلة والتعامل مع مكان وقوع حدث الوفاة وبالتالي مراجعة ودراسة الملفات لاستخلاص الدروس في مجال الوقاية والسياسات، وتحمل المسؤولية.
فرق مراجعة وفيات الأطفال من الناحية الاجرائية
التعامل مع وفيات الأطفال المفاجئة والغامضة على المستوى الوطني
ضمان وجود مرجعيات قانونية وإدارية للتحقيق في جميع وفيات الأطفال على المستوى الوطني بشكل مرجعي ثابت.
التبليغ عن جميع حالات وفيات الأطفال المفاجئة والغامضة للطب الشرعي.
ضمان توفير المعلومات عن كل مسرح وفاة طفل مفاجئة أو غامضة للطبيب الشرعي قبل إجراء التشريح.
مركز للمعلومات عن وفيات الأطفال المفاجئة والغامضة على المستوى الوطني.
نظام متكامل للتعامل مع وفيات الأطفال المفاجئة والغامضة يهدف إلى:
توثيق مسرح وفاة الطفل بالوسائل التقنية الرقمية (كتابة وصورا) والاطلاع عليه من قبل الطبيب الشرعي قبل إجراء التشريح لأي حالة.
توفير مصدر معلومات محدث بشكل دائم للمحققين من الشرطة والادعاء العام.
توثيق سبب الوفاة وظروف الوفاة بطريقة مرجعية محوسبة.
توفير المعلومات لفرق مراجعة وفيات الأطفال الوطنية والمحلية وعلى مستوى المستشفيات.
إعداد تقرير مسرح الوفاة.
إعداد تقرير الكشف الطبي الشرعي (التشريح)
فوائد النظام المتكامل للتعامل مع وفيات الأطفال المفاجئة والغامضة
استكمال إجراءات الطب الشرعي بشكل مهني فني وقانوني.
استكمال إجراءات التحقيق بشكل متسق ومتكامل.
إجراء الدراسات المسحية عن كافة وفيات الأطفال.
تحديد عوامل الخطورة المرتبطة لكل تصنيفات وفيات الأطفال.
توفير المعلومات الموثقة المعتمدة للأبحاث.
الدكتور هاني جهشان مستشار اول الطب الشرعي
الخبير في حقوق الطفل والوقاية من العنف
תגובות