لقد عرفت دراسة الأمين العام للأمم المتحدة المتعلقة بالعنف ضد الأطفال العنف الجسدي بأنه "الاستخدام المتعمد للقوة البدنية ضد الطفل، مما يؤدي إلى، أو إحتمال أن يؤدي إلى أذى يَلحَق بصحة الطفل أو حياته أو نموه أو كرامته". أما العقاب الجسدي أو ما يطلق عليه الضرب التأديبي فقد عرفته لجنة حقوق الطفل في الأمم المتحدة بجنيف بأنه "أي عقوبة تُستخدم فيها القوة البدنية بقصد إحداث درجة من الألم والمعاناة، حتى وأن كانت خفيفة" وبهذه المرجعية فإن أي شكل من أشكال العقاب الجسدي للطفل وإن أطلق عليه مجازا ضربا تأيبيا هو عنف جسدي ضد الطفل، وفي هذا المجال ليس هناك أي مجال للمساومة أو التلاعب بالألفاظ لتبرير ظاهرة خطيرة يتعرض لها الأطفال تحت الادعاء خطأ بتأديبهم. إنه من المستحيل وضع خط فاصل ما بين العنف الجسدي ضد الطفل وما بين ضربه تأديبيا.
أغلب الأطفال في الأردن، كما هو الحال في عديد من دول العالم، يتعرضون للصفع وللضرب بالعصي والركل والهز والعض وبعضهم يتعرض للكي بالنار والخنق والتسميم، على يد أحد أفراد أسرهم، وفي بعض الحالات يؤدي ذلك إلى وفاة الطفل أو إصابته بإعاقة أو عاهة دائمة، أو ضرر جسدي بالغ، وفي جميع هذه الأحوال يكون هنال أثر سلبي على الصحة النفسية للطفل وعلى بناء شخصيته.
أظهرت دراسة ميدانية حول العنف ضد الأطفال في الأردن أجرتها منظمة اليونسف عام 2007 شملت 5489 طفلاً مٌمَثِلة لكافة مناطق المملكة، أن 52% من أطفال الأردن أفصحوا عن تعرضهم للعقاب الجسدي في المنزل وأن 34% من الأطفال وصفوا هذا العقاب أنه شديد، وبينت الدراسة أن العقاب تجاوز 6مرات شهريا في 44% من الأطفال الذين تعرضو للعقاب الجسدي وكان يتصف بالإستمرارية، أي أكثر من 15 مرة شهريا، في 25% من هؤلاء الأطفال.
تراوحت أشكال العقاب الجسدي الذي تعرض له الأطفال في الأردن من أشكال وصفت أنها طفيفة كالصفع والقرص وشد الشعر والدفع ولي الساعد أو الساق، ولي الآذان أو الإجبار على البقاء في أوضاع قسرية، وبعضهم وصفها أنها شديدة كإستعمال العصا والحبال والأسلاك والعض والحرق بأدوات ساخنة والسمط بالماء الحار وفي بعض الأحيان كان تتصف بالتعذيب من مثل الجلد المتكرر بالسوط والركوع أو إستخدام مواد وبهارات حارة.
بينت الدراسة أيضا أن من وجهة نظر الأطفال كانت أسباب تعرضهم للعقاب الجسدي أمورا تتعلق بأدائهم المدرسي في 56% من الحالات وإلى التصرفات المزعجة وغير المقبولة في 53% من الحالات وإلى إرتكاب الأخطاء وانعدام الانضباط والسلوك السيء في 52% من الحالات.
بينت الدراسة أيضا إن عواقب العقاب الجسدي على هؤلاء الأطفال كانت إصابتهم بكدمات وسحجات وصفت بأنها بسيطة بـ 42% من الحالات ووصفت أنها شديدة وتشمل كسورا وجروحا في 18% من الحالات وكان هناك حاجة لإدخال مستشفى في 5% من الحالات. أما العواقب النفسية للعقاب الجسدي فكانت على شكل شعور الأطفال بالحزن بنسبة 66% وبالخجل والندم والإحباط بنسبة 57%، والشعور بالإرتباك بنسبة 42%. لقد شعر 30% من الأطفال برغبتهم بالإنتقام من الوالدين، و19% بالهرب من المنزل و13% برغبة في إيذا أنفسهم.
أعتقد 46% من الاباء والامهات في الأردن أن هناك أهمية كبيرة بإستخدام العقاب الجسدي بالمنزل لضبط سلوك الأطفال وأن 75% منهم يعتقدون أن معظم الأطفال في وقتنا الحاضر لا يحترمون أبائهم وأمهاتهم. ويعتقد 82% من الأباء والأمهات أن ضرب الطفل هو مبرر أن رفض القيام بمهمة كلف بها من قبل الكبار، و70% منهم يعتقد أن ضربه مبرر إذا قام بالسرقة من الأخرين، 76% إن كان الطفل كثير الجدل ومزعج الكلام، و66% إذا كان أداؤه الاكاديمي ضعيفا.
لقد خلصت الدراسة إلى أن نحو نصف الأطفال في الأردن يتعرضون لإساءات على شكل عقاب جسدي من قبل الوالدين بشكل يؤدي إلى عواقب جسدية ونفسية قد تهدد صحتهم وحياتهم وتدمر بناء شخصياتهم مستقبلا، وإلى أنه لا يوجد حد فاصل ما بين الضرب التأديبي والعنف ضد الأطفال، وخلصت الدراسة أيضا إلى أن هناك ثقافة سائدة في المجتمع الأردني تتقبل العنف ضد الأطفال وتعتبره وسيلة للتأديب والتربية، وبينت أيضا أن هناك سلوكيات خطيرة تتولد لدى الأطفال بسبب تعرضهم للعقاب الجسدي تشمل النزعة لديهم للهرب من المنزل ونزعة إيذاء أنفسهم والإنتحار وإرتكاب السوكيات الجرمية.
لقد أوصت الدراسة بمراجعة السياسات وتطوير التشريعات وتحسين الخدمات وتدريب المهنيين في المجالات المختلفة المتعلقة بمواجهة العنف، وركزت الدراسة على أهمية التوعية وتثقيف الأباء والأمهات على استخدام الطرق البديلة للعقاب الجسدي في تربية الأطفال، ونشر وزيادة الوعي لدى الأطفال بحقوقهم في الحياة والصحة الحماية من العنف.
إن دراسة العنف ضد الأطفال في الأردن تشير إلى واقع مقلق؛ أولا لأنها أظهرت كبر شيوع هذه المشكلة وأنتشارها في مجتمعنا كما يستدل عليه بالنسب المئوية المشار إليها أعلاه، وثانيا بسبب قانونيتها ومشروعيتها وتقبلها أجتماعيا، وثالثا بسبب الجدل الواسع حول مفهوم العقاب الجسدي، والذي يتصف بأغلب الأحيان بأنه عقيم ويؤدي إلى طريق مسدود لا يأخذ المصلحة الفضلى للطفل بأي أعتبار.
لقد أوصت دراسة الأمين العام للأمم المتحدة المتعلقة بالعنف ضد الأطفال، الصادة عام 2006، بنص واضح على المستوى التشريعي يطالب الدول "بحظر جميع أشكال العنف ضد الأطفال بما في ذلك العقوبات البدنية... وأشكال المعاملة والعقوبة القاسية واللاإنسانية أو المهنية..." بما يتفق والاتفاقيات الدولية وهدف هذا الحظر هو توجيه رسالة توعوية للمجتمع بأن كل أشكال العنف ضد الطفل غير مقبولة وغير قانونية بهدف تعزيز المعايير الإجتماعية الإيجابية غير العنيفة، وأنه لا ينبغي أن يتمتع بالحصانة أو يفلت من العقاب أولئك الذين يرتكبون العنف ضد الأطفال.
إن الأردن مُصادق على اتفاقية حقوق الطفل وهو مٌلزم أخلاقيا بتطبيق توصيات دراسة الأمين العام للأمم المتحدة المتعلقة بالعنف ضد الأطفال والتي أطلقت في اقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تحت الرعاية الكريمة لجلالة الملكة رانيا العبد الله عام 2007، الإ أنه وللأسف هناك إخفاق في تنفيذ التوصية المتعلقة بحظر العقوبات الجسدية ضد الأطفال، فالقانون الأردني لا زال يبيح الضرب التأديبي للأطفال بنص المادة 62 من قانون العقوبات وتنفيذ التوصية يستدعي ليس فقط إلغاء السماح بالضرب التأديبي الوارد بالمادة 62 عقوبات، بل أيضا بإيجاد المواد القانونية التي تجّرم الضرب التأديبي للأطفال بوضوح النص.
إن التعديل الذي أجري مؤخرا بموجب قانون العقوبات المؤقت رقم 12/2010 على المادة 62 عقوبات جاء غامضاً مبهماً وزاد من الجدل العقيم حول كيفية التعامل مع الضرب التأديبي؛ فقد ورد بالنص الجديد "لا يعد الفعل الذي يجيزه القانون جريمة ويجيز القانون أنواع التأديب التي يوقعها الوالدان بأولادهم على نحو لا يسبب إيذاء أو ضرراً لهم ووفق ما يبيحه العرف العام" والذي يفهم منه ضمنيا السماح بالضرب التأديبي وبالتالي تقبله كثقافة سائدة في المجتمع، وكان من الأولوية بمكان إلغاء هذا النص كاملا كخطوة أولى تمهيدا لإيجاد نص جديد يٌجرّم العقاب الجسدي داخل الأسرة صراحة، حيث لا يتوقع من أي "قانون عقوبات" أن يرشدنا إلى وسائل تربية أطفالنا لأن هدفه حماية الفرد والأسرة والمجتمع بالردع عن أفعال جٌرميّة محددة وليس السماح بها.
إن مواجهة هذه المشكلة يتطلب بالإضافة للإصلاح القانوني المشار إليه أعلاه، إيجاد إستراتجيات وطنية تتحمل الدولة مسئولية التخطيط لها وتنفيذها وتقييم مخرجاتها تهدف إلى توفير التوعية الوالدية الإيجابية التي تضمن استعمال وسائل بديلة للتربية لا تتصف بالعنف، وتوفير برامج رعاية الأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة، وبرامج توعية الأطفال بحقوقهم. كما وإن الوقاية من عواقب التاديب الجسدي على الأطفال يتطلب توفير وتطوير خدمات الإبلاغ عن الحالات وتوفير خدمات حماية من العنف سهلة النفاذ للأطفال بكافة الأوقات.
لكل طفل أردني الحق في حياة خالية من العنف، وهذا الحق لا يمكن تبرير إنتهاكه بتسميته ضربا تأديبيا، كما وأن عنف الضرب التأديبي ليس حتميا وليس قدراً واقعا على الأطفال، فقد أثبتت الدراسات أنه يمكن الوقاية منه وهناك بدائل عنه. إن التراخي في مواجهة مشكلة العقاب الجسدي للأطفال سوف تعلِّمهم أن العنف شيء مقبول وتخلق بذلك دوامة من العنف تديم الفقر والجهل والأمية والموت المبكر، وتؤدي الآثار الجسدية والعاطفية والنفسية التي يخلفها العنف إلى حرمان الأطفال من فرص تحقيق إمكانياتهم، وبالتالي يسلب المجتمع إمكانياته في التنمية.
الدكتور هاني جهشان مستشار اول الطب الشرعي
الخبير في مواجهة العنف لدى مؤسسات الأمم المتحدة
Kommentare